مقتضيات الإيمان : نحو بناء الإنسان في أفق التوحيد والتزكية والمساواة" من كتاب "الدين للحياة".

 




بسم الله الرحمن الرحيم

"مقتضيات الإيمان : نحو بناء الإنسان في أفق التوحيد والتزكية والمساواة"

من كتاب "الدين للحياة"‏

هذا العرض يتكون من ثلاثة محاور:

أولاً: العبادات والمعاملات.. وحدة لا تنفصل

ثانياً: التعدد البشري والتنوع الثقافي.. من آيات الله

ثالثًا: المساواة بين المرأة والرجل.. تكريم وعدل

كما تعلمون أيها الإخوة والأخوات، في زمن تتصارع فيه المفاهيم وتتعدد فيه التأويلات، تبرز الحاجة الماسة إلى استحضار روح الدين ومقاصده في التعامل مع الإنسان، فردًا ومجتمعًا. ومن هذا المنطلق، فإن الربط بين العبادات والمعاملات، والإيمان بالتعدد البشري والتنوع الثقافي، وترسيخ المساواة بين الرجل والمرأة ، تمثل ثلاث ركائز متكاملة في التصور الإسلامي السليم للدين والحياة.

أولاً: العبادات والمعاملات.. وحدة لا تنفصل

لقد اعتاد الفقهاء على تقسيم الدين إلى عبادات ومعاملات، للتيسير في الفهم والبيان، غير أن هذا التقسيم تحول لدى البعض إلى فصام نكد، يفصل بين طقوس العبادة وسلوك المعاملة. وهنا تقع المفارقة المؤلمة: مصلٍّ ملتزم بالشعائر، لكن سلوكَه التجاريَّ أو المهني يشوبه الغش، أو شخص صائم لا يتورع عن أذية جيرانه. وهذا ناتج عن اختزال الدين في صورته التعبدية فقط، في حين أن الإسلام دين شامل يمزُج بين حسن الصلة بالخالق وحسن التعامل مع الخلق.

وقد أكد النبي ﷺ هذا الترابط في أحاديث عدة، منها قولُه: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وقولُه في المرأة التي تُكثر الصلاة لكنها تؤذي جيرانها: «هي في النار». مما يدل على أن المعاملة هي المعيار الحقيقي لصدق العبادة.

فالإيمان الذي لا يثمر سلوكًا قويمًا هو ناقص، وقد قال النبي ﷺ: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

ثانياً: التعدد البشري والتنوع الثقافي.. من آيات الله

في عالم اليوم الذي تزداد فيه النزعات الإقصائية، نجد القرآن الكريم يعلن بوضوح أن التعدد والاختلاف سنة كونية، وآية من آيات الله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ (الروم: 22).

إن هذا التنوع في اللغات والثقافات والانتماءات ليس مبررًا للصراع، بل هو دعوة إلى التعارف والتعاون: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13). فالتنوع لا يلغي الوحدة، بل يثريها ويعمقها، ما دام يجري في إطار القيم الإنسانية المشتركة: العدلِ، الرحمةِ، الكرامة، الحوار، والاحترام المتبادل.

ومن هنا، فإن الإسلام يدعو إلى تساكن الأديان وتعايش الحضارات، ويحث أتباعه على التعرف إلى الآخر والانفتاحِ عليه، لا لمجرد التسامح، بل للتكامل وبناء المشترك الإنساني.

ثالثًا: المساواة بين المرأة والرجل.. تكريم وعدل

من القضايا التي نالت حظًا وافرًا من التأويلات الخاطئة، مسألة المرأة ومكانتِها في الإسلام. فهناك من يستند إلى أعراف أو ممارسات ثقافية على أنها من الدين، في حين أن نصوص الوحي تؤكد مبدأ المساواة في الأصل الإنساني، والتكريم الإلهي، والتكليف الشرعي: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97).

وقد ساوى النبي ﷺ بين النساء والرجال في كثير من المواطن، حيث قال: "النساء شقائق الرجال"ودعا كذلك إلى احترام المرأة والوصية بها، فقال: «استوصوا بالنساء خيرًا»، وقال في خطبة الوداع: «ألا واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عوان».

فلا عدالة في مجتمع يهمل نصفه، ولا نهضة بغير إنصاف المرأة وتمكينها من حقوقها كاملة، ‏ضمن إطار من التوازن والتكامل، لا الصراع والتنافس.

قال الله تعالى في آية أخرى: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ". جاءت هذه الآية الكريمة في سياق الحديث عن العلاقة بين الزوجين، لتؤسس لمبدأ إنساني عميق في الرؤية الإسلامية، وهو العدالة المتبادلة بين المرأة والرجل.

كلمة "بِالْمَعْرُوفِ" هي المفتاح لفهم هذا التوازن، فهي تشير إلى المعايير المتفق عليها أخلاقياً واجتماعياً بما يليق بالكرامة الإنسانية، ويتماشى مع القيم والرحمة.

المساواة في الواجبات والحقوق

الشق الأول من الآية "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ"، يُقر مبدأً أساسياً: أن المرأة لها من الحقوق كما عليها من الواجبات، في توازن يُراعي الفطرة البشرية ويضمن الكرامة لكلا الطرفين. وهذه المساواة لا تعني التطابق، بل تعني التكامل والعدالة، حيث تُوزَّع الأدوار والحقوق بناءً على ما يحقق المصلحة المشتركة داخل الأسرة والمجتمع.

الدرجة: مسؤولية لا تفضيل

أما الشق الثاني من هذه الآية قول الله تعالى: "وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ"، فقد فُهم أحيانًا على أنه تفضيل للرجل على المرأة، بينما النص نفسه يوضح أن هذه "الدرجة" هي في مقام المسؤولية والقيادة داخل الأسرة، لا في القيمة أو الكرامة.

فالقرآن الكريم يؤكد في مواضع عدة أن كرامة الإنسان لا تُحدَّد بجنسه، بل بتقواه وعملِه: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات.

فالدرجة هنا تُحمِّل الرجل عبئًا إضافيًا من الرعاية والقيام على الأسرة، وليست امتيازًا يُمنح له دون مقابل.

خاتمة:

وفي الختام الإسلام يرسّخ، في مقاصده العليا، رؤية شاملة تقوم على التوازن بين العبادة والمعاملة، حيث تُعد العبادات وسيلة لتزكية النفس، وتنعكس في السلوك الإنساني القائم على الصدق والرحمة والعدل.

كما يُقر الإسلام بالاختلاف البشري ويدعو إلى تدبير التنوع الثقافي باعتباره مصدرًا للتعارف والتكامل، لا للصراع.

ويؤمن بعدالة العلاقة بين الرجل والمرأة في إطار من الرحمة والتكامل، بعيدًا عن الظلم أو التمييز. وفي ظل الأزمات المعاصرة، يقدم الإسلام هذا المنظور الإنساني العادل كحل يعيد للإنسان كرامته، وللمجتمع توازنه، وللحضارة بعدَها الأخلاقي.

نسأل الله عز وجل أن يُبصّرنا بحقائق ديننا، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



الإمـــــام المرشــــــــــد:

  محمــــد الحمــــــوم

تعليقات