قراءة تاريخية في البيعة الشرعية.
الأستاذ: إبراهيم القداح عضو المجلس العلمي المحلي
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على أفضل رسله، وآله وصحبه، ومن اهتدى بهديه.
معشر السادة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته، وبعد.
يأتي هذا العرض الذي أتشرف بإلقائه أمامكم،
في سياقين وطنيين اثنين:
الأول: التوعية المستمرة بالثوابت الدينية
والوطنية، في إطار خطة تسديد التبليغ.
الثاني: الاستعداد للاحتفال بذكرى عيد
العرش المجيد، الذي يخلده آخر هذا الشهر كل سنة.
وقادني التفكير في إعداده إلى وضعه في مقدمة تعريفية بالبيعة الشرعية، ومباحث في نشأتها وجذورها، وأحكامها وأحداثها، وواقعها وآثارها، والختام بخلاصة لما تضمنه بإيجاز، فأقول والله المستعان.
المقدمة
جاء لفظ البيعة في مادته اللغوية مرادا به عقد
البيع المعهود، الذي يتناوله فعل باع[1]،
وتدل اللفظة على المرة إذا قصدت بوزنها[2]،
على ما تقرر في ميزان الصرف[3]. .
وتتم في البيع عادة صفقة بيدي المتبايعين،
دلالة على رضاهما بالبيع وإتمامه[4]،
هذه الصفقة هي الجسر الواصل بين المعنى اللغوي هذا، وبين المعنى الاصطلاحي الذي نحن
بصدد الحديث عنه، وهو يدل على العهد على الطاعة[5].
وفي كلا المعنيين، اللغوي والاصطلاحي، قال
ابن خلدون[6]:
اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له
النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به
من الأمر، على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده، جعلوا
أيديهم في يده، تأكيدا للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع،
وصارت البيعة مصافحة بالأيدي، هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع[7].
هكذا عرفت البيعة الشرعية في نطاق العمل
بها، ومن خلال هذا التعريف نجد أنها عمل مشترك بين طرفين[8]،
لكل منهما صفات معتبرة، الطرف الأول: المبايعون، وهم أهل الحل والعقد، ومن صفاتهم
أن يكونوا من الأفاضل الذين حنكتهم التجارب، واستوى عندهم في العدالة الأقارب
والأجانب، ولهم بصر بالسياسات، ومن يصلح لها من ذوي الكفاءات[9].
والطرف الثاني: من تعقد له البيعة، من ذوي
العزائم والهمم العلية، ومن صفاته، أن يكون ذا علم وعدالة، وعز وصولة، في الذب عن
البيضة، وحماية من أسند إليه الأمانة[10].
ومن الصيغ التي وضعت لها أن يقال:
"بايعناك راضين على إقامة العدل، والقيام بفروض الإمامة على كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم"[11].
وخير مثال ينكشف به للعيان، ما ارتسم من تعريف هذه البيعة في الأذهان، ذلك الخطاب الذي أعلن به سيدنا أبو بكر رضي الله عنه انعقاد البيعة له، بعد نقاش سياسي تمخضت عنه، وهذا نصه: أما بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله[12].
المبحث
الأول
إذا ذكرت نشأة دولة الإسلام[13]،
فإنها تذكر معها نشأة هذه البيعة، ومنذ أن بدت في الأفق معالم إقامة دولة الإسلام،
من خلال اللقاءين الذين جمعا بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل يثرب، لعامين
متتاليين في موسم الحج بمكة، قبيل الهجرة[14]،
بادر النبي صلى الله عليه وسلم بعقد هذه البيعة، على الشكل الذي يناسب المرحلة،
فجاء في اللقاء الأول قوله صلى الله عليه وسلم كما روى عبادة بن الصامت رضي الله
عنه[15]: تعالوا
بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم،
ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم
فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب
من ذلك شيئا فستره الله، فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه[16]،
وجاء في اللقاء الثاني كما روى الصحابي عبادة بن الصامت أيضا قال: بايعنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر
أهله، وأن نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم[17].
وقد تأكدت تلك البيعة ببيعتين أخريين، جاءت
كل واحدة منهما في وقت الحاجة إليها.
أولاهما: بيعة الرضوان، التي وقعت في غزوة
الحديبة، وباعثها أن سيدنا عثمان لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ قريشا
أنه ما أتى لقتالهم، وإنما جاء لأداء العمرة، فاحتبسته قريش حتى شاع أنهم قتلوه،
حينئذ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من الصحابة لهذه البيعة، حتى يثأر
لسيدنا عثمان إن صح خبر قتله[18]،
فبايعوه
تحت الشجرة على ذلك، وفي هذه البيعة نزل قول الله عز وجل: (اِنَّ اَ۬لذِينَ
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَ۬للَّهَ يَدُ اُ۬للَّهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْۖ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَيٰ نَفْسِهِۦۖ وَمَنَ اَوْف۪يٰ
بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهِ اِ۬للَّهَ فَسَنُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماٗۖ [19])
وقوله سبحانه: (۞لَّقَدْ رَضِيَ اَ۬للَّهُ عَنِ اِ۬لْمُومِنِينَ إِذْ
يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ اَ۬لشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِے قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ
اَ۬لسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحاٗ قَرِيباٗ [20]).
والثانية: هي بيعة النساء، وهي التي يمتحن
بها إذا هاجرن، وذكرت في فتح مكة[21]،
وخلدها الله عز وجل في سورة الممتحنة: (يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّبِےٓءُ اِ۪ذَا
جَآءَكَ اَ۬لْمُومِنَٰتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَيٰٓ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ
شَيْـٔاٗ وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَٰدَهُنَّ وَلَا
يَاتِينَ بِبُهْتَٰنٖ يَفْتَرِينَهُۥ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا
يَعْصِينَكَ فِے مَعْرُوفٖ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اَ۬للَّهَۖ إِنَّ
اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ)[22].
وهنا استوفت البيعة النبوية كل شروطها،
واستوت على ساقها، لتكون المنشأ والأصل لكل بيعة شرعية تأتي بعدها، لتجمع بين
الراعي والرعية في كل دولة مسلمة، فتكونت لها حزمة من الأحكام الشرعية[23]،
تحفظها من الاستخفاف، وتنأى بها عن الاعتساف، فهي تقوم أولا على الرضا بين الطرفين
على عقدها، وتسعى ثانيا لتحقق إرادة كل طرف منها، فالإرادة الأولى هي: حماية
البيضة والذب عن الملة، والإرادة الثانية هي: الطاعة والنصرة، وكلتا الإرادتين
تنتهي إلى بناء كيان الإمارة، الضامن لتفعيل مفهوم الإمامة الكبرى في الأمة[24].
وعلى هذه الأسس امتد أمد البيعة طيلة العهد
النبوي، وسارت على نفس النهج في العهد الراشدي، الذي غطى ثلاثين سنة على وفق ما
تنبأت به السنة، " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة"[25]،
وقد تعاقب على الحكم في هذه المدة، الخلفاء الأربعة المشهود لهم بتمام الكفاءة، ومتانة
الديانة، فلم يسمع في عهدهم من يسعى في نقض عروة هذه البيعة، إلا ما وقع في أواخره،
بين سيدنا علي وسيدنا معاوية رضي الله عنهما، مما يسعه باب الاجتهاد، حسب ما
يقتضيه حسن الظن بالصحابة الكرام، ومن سار في ركابهم من الأئمة الأعلام[26].
وسوى ذلك يصح القول: إن البيعة الشرعية حظيت في العهد الراشدي بالمكانة التي تستحقها، وكان أصحابها على العلم التام بخطورة عقدها.
المبحث
الثاني
تخطت البيعة الشرعية العهد الراشدي بسلام، وأدت
وظيفتها على وجه التمام، مع اتساع رقعة الدولة، بالفتوحات المسترسلة، ليتها بقيت
على ما كانت عليه، من مراعاة أركانها، والسعي في تحقيق مقاصدها في الدول
المتلاحقة، لكن تغير حالها بعد انتقال كرسي الحكم من المدينة المنورة، وتحوله إلى نهبة
في أيدي المتغالبين عليه.
في هذا الوقت، تعرضت البيعة الشرعية لمآس
متعددة، أدى إليها طموح سياسي أحيانا، وأخرى نزاع عرقي، فلم تعد البيعة تعقد على
أصلها المشروع، وإنما يدع الناس إليها دعا، طوعا أو كرها، وهذا هو السبب في ظهور
أيمان البيعة، وهي التي أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي[27]
ليثبت به أركان الخلافة لعبد الملك بن مروان[28].
وهي أيمان أربع، الطلاق، والعتاق، واليمين
بالله، وصدقة المال[29]،
وكانت تكتب بها البيعات لتحرج من يريد التنصل منها[30]،
و للإمام مالك رضي الله عنه فيها، نازلة رفعت إليه لمعرفة الحكم الشرعي في شأنها، فأفتى
أن تلك البيعة بذلك الوصف لا تلزم، ففهمت عنه سياسيا بما يدل أنه معارض، فأوذي
بسببها[31].
وهكذا صارت البيعة رهينة بيد القوة، تعقد
كرها إذا هبت رياح السلطة، وتنقض غير مأسوف عليها إذا تقوى جانب الأمة، إذا أبرمت
تشكو من نفوس تنغمس في أوحال الشهوات، وإذا ألغيت تشكو من عقول مكبلة بالشبهات، وأحداث
التاريخ الإسلامي شاهدة، وبما سبق ذكره ناطقة[32]،
والأحكام الفقهية التي كانت تبوئ لها مكانتها في النفوس، مثل حكم خلو الذمة منها،
المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة
لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية[33]،
لا تذكر عند الحاجة إليها، ولا تستأمر في الإقدام على مخالفتها، ولعل هذا الوضع
الفقهي في شأنها، هو الذى أدى إلى فتح باب لها في أحكام العقائد، ليشد ما وهن من
أمرها، ويجدد في النفوس منزلتها.
وفي هذا السبيل نقف في القرن الرابع عند
ثلاثة من أعلامه، ألفوا في علم الكلام، ومؤلفاتهم ما زالت تدرس، أجمعوا كلهم على
ذكر مقتضيات البيعة في مباحث كتبهم.
أولهم: أبو جعفر الطحاوي[34] (ت321هـ) في كتابه "بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: الشهير بالعقيدة الطحاوية، قال فيه: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة[35].
ثانيهم: الإمام أبو الحسن الأشعري[36] (ت324هـ) في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة" قال فيه: ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بإنكار الخروج بالسيف، وترك القتال في الفتنة،[37].
ثالثهم: الإمام ابن أبي زيد القيرواني[38]
(ت386هـ) في كتابه " الرسالة" قال في مقدمته: والطاعة لأئمة المسلمين من
ولاة أمورهم وعلمائهم[39].
بهذه العقيدة التي قررها هؤلاء الأعلام في
كتبهم، دخل أمر البيعة الشرعية في طور جديد، يحول دون تكرار ما سبق في شأنها، حتى
تحتفظ الأمة باستقرارها السياسي ما وجدت إلى ذلك سبيلا ولو بالغلبة[40]،
فمن سبقت منه البيعة لولي أمره، يحملها عقيدة في نفسه، لا يساوم عليها ولو ببسط
الدنيا بين يديه.
ومبني هذه العقيدة من حيث النقل، ما رواه
الشيخان في الصحيحين بسنديهما إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها، قالوا: فما
تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم، وما روياه أيضا بسنديهما
إلى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كره من أميره
شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية[41].
ومبناها من حيث العقل، حكمه ومعه الواقع، بأن الضرر الذي يجره الخروج على السلطان، أكبر بكثير من الضرر الذي يحصل بالصبر على الطاعة.
المبحث
الثالث
لم تختلف التجربة المريرة التي مرت بها
البيعة الشرعية بالشرق الإسلامي، عن تجربة مثيلتها في الغرب الإسلامي، فأحداث
التاريخ في هذا الصقع سجلت حالات متعددة انتهكت فيها حرمة البيعة، وأدى الناس
ثمنها بأضرار فادحة[42]،
ونحمد الله سبحانه على تجديد الوعي الديني في العقود الأخيرة، بمكانة هذه البيعة
في ثوابتنا الدينية والوطنية، ومن وراء هذا التجديد أمور ثلاثة، كان لها أثرها
الذي لا ينكر، ويذكر بها لبلدنا أمنه الذي يذكر فيشكر.
أولها: الدعاء للسلطان، على المنابر وفي
المجالس، فكل من دعا أو أمّن، يشهد لنفسه ويشهد غيره، أنه مستمسك ببيعة ولي أمره،
وطاعته جزء من عقيدته.
ثانيها: تجديد الولاء للسلطان في صدر كل
سنة تمر على ملكه، يحضره أهل الحل والعقد من أعيان شعبه.
ثالثها: توثيق البيعة بوثيقة محبرة، يوقعها
ويحضرها جمع من رجال العلم والسياسة والإدارة، الذين ينوبون عن الشعب بجميع فئاته،
ويردون بصفاتهم في بطن الوثيقة، وعلى ذكر هذه الخصلة، في البيعة التي نتوارثها
خلفا عن سلف، يطيب لي أن أحلي عرضي هذا بعرض الوثيقة الرسمية، التي وثقت بيعة أمير
المؤمنين مولانا محمد السادس أيده الله ونصره، والتي تليت بين يدي جلالته، يوم
تنصيبه ملكا للمغرب، مساء يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الثاني عام 1420هـ،
الموافق للثالث والعشرين من شهر يوليوز سنة 1999م.
وهذا نصها:
الحمد لله الذي جعل الإمامة العظمى أمنا
للأمة ونعمة ورحمة، وجعل البيعة ميثاقا، والطاعة للأولي الأمر عهدا ووفاء، فقد قال
تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما
ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسنوتيه أجرا عظيما، وقال سبحانه:
يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، وقال مولانا رسول
الله صلى الله عليه وسلم: من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية، وإنه لما
قضى الله بوفاة أمير المؤمنين، ابن أمير المؤمنين، وإمام المسلمين في هذا البلد
الأمين، جلالة الملك الحسن بن محمد بن يوسف بن الحسن، قدس الله روحه وطيب ثراه،
وعطر بأريج الرحمة مثواه، ولما كانت البيعة الشرعية في أعناق المغاربة جميعا من
طنجة إلى الكويرة، وكانت البيعة من الشرع، وهي الرابطة المقدسة، التي تربط
المؤمنين بأميرهم، وتوثق الصلة بين المسلمين وإمامهم، وكان فيها ضمان حقوق الراعي
والرعية، وحفظ الأمانة والمسؤولية، وسيرا على المعهود في تقاليدنا الملوكية
المرعية، والتي بفضلها تنتقل البيعة بولاية العهد من الملك إلى ولي العهد من بعده،
فإن أصحاب السمو الأمراء، وعلماء الأمة، وكبار رجال الدولة، ونواب الأمة
ومستشاريها، ورؤساء الأحزاب السياسية، وكبار ضباط القيادة العليا للقوات المسلحة
الملكية، الموقعين أسفله، إذ يعبرون عن ألمهم بفقدان رمز الأمة، سليل الملوك
العلويين الكرام، وواسطة عقد الأئمة العظماء الأعلام، مولانا الحسن بن مولانا محمد
بن مولانا يوسف بن مولانا الحسن، ويبتهلون إلى الله جلت قدرته وتجلت عظمته، أن
يسكنه فسيح الجنان، ويحسن إليه أكبر الإحسان، على إخلاصه وتضحيته، وأدائه الأمانة
على وجهها، ووفائه بالرسالة بأكملها، يقدمون بيعتهم الشرعية لخلفه ووارث سره، صاحب
الجلالة والمهابة، أمير المؤمنين سيدنا محمد بن الحسن، بن محمد بن يوسف بن الحسن،
جعل الله أيامه أيام يمن وخير وبركة، وسعادة على شعبه وبلده، وحقق على يديه
الكريمتين، آمال هذه الأمة الوفية، المتمسكة بعرشه، والمتفائلة بعهده، ملتزمين بما
تقتضيه البيعة من الطاعة والولاء، والإخلاص والوفاء، في السر والعلانية، والمنشط
والمكره، طاعة لله عز وجل، واقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، سائلين الله
لأمير المؤمنين طول العمر، ودوام النصر والعز والتمكين[43].
انتهى نص الوثيقة، وبه أنتهي إلى الختام: لأقول
بعد هذه الجولة العجلى في تاريخ البيعة الشرعية، أقول:
إن ذكرها في التاريخ الإسلامي حافل وشامل،
يأتي تصريحا ويأتي تلميحا.
وقد تكون المقياس لمستوى المجتمع المسلم في
تحضره وتقدمه.
ولها في أحكام الشرع اعتقادا وعملا نصيب وافر
ليكون المسلم على علم بخطورة أمرها، ويسعى جاهدا للوقوف عند حدودها.
وما يقوم مقامها في عصرنا الحاضر من
المراسم المستوحاة من القوانين الوضعية، لا يفي بمرادها، ولا يغني عنها.
ويبقى بلدنا وفيا لها، عاملا بمقتضاها.
هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل،
والحمد لله رب العالمين.
إبراهيم القداح عضو المجلس العلمي المحلي
[1] تهذيب اللغة للأزهري، {البيعة: الصفقة لإيجاب البيع على المتابعة
والطاعة} باب البيع والباء، بيع بوع.
[2] معجم اللغة العربية المعاصرة، للدكتور أحمد مختار، ب، ب ي ع.
[3] وفي ألفي ابن
مالك {وفعلة لمرة كجلسة} أبنية المصادر، البيت 455.
[4] معجم مقاييس اللغة لابن فارس، باب الصاد والغين وما يثلثهما، صفق،
{والصفقة: ضرب اليد على اليد في البيع والبيعة، وتلك عادة جارية للمتبايعين}.
[5] التعريفات الفقهية للبركتي، الباء، البيعة.
[6] عبد الرحمن بن محمد الشهير بابن خلدون، يعد من أعلام عصره، توفي 808هـ،
الضوء اللامع، الترجمة 386.
وقد ترجم نفسه
في كتابه {التعريف بابن خلدون}.
[7] المقدمة لابن خلدون، الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة،
الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة.
[8] المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، كتاب الباء، بيع.
[9] غياث الأمم في التياث الظلم لإمام الحرمين، الباب الثالث في صفات
الذين هم من أهل عقد الإمامة وتفصيل القول في عددهم.
[10] الأحكام السلطانية للماوردي، الباب الأول في عقد الإمامة، فصل: الشروط
التي ينبغي توافرها في الخليفة.
[11] تحرير الكلام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة، الباب الأول في وجوب
الإمامة وشروط افمام وأحكامه، الفصل الرابع.
[12] سيرة ابن هشام، أمر سقيفة بني ساعدة، (خطبة أبي بكر)
[13] ولمفهوم الدولة تعاريف
متعددة، تراجع في "نظام الحكم في الإسلام" للدكتور محمد يوسف موسى،
المبحث الأول: هل يوجب الإسلام إقامة دولة؟ ما هي الدولة؟
[14] البداية والنهاية لابن كثير، فصل قدوم الأنصار عاما بعد عام، حتى
بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة بعد بيعة.
[15] ترجمته في الاستيعاب للحافظ بن عبد البر، حرف العين، باب عبادة،
الترجمة 1372.
[16] متفق عليه،
البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة
وبيعة العقبة، ومسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارة لأهلها.
[17] البخاري، كتاب
الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس.
[18] سيرة ابن هشام، أمر الحديبية في آخر سنة ست، وذكر بيعة الرضوان.
[19] سورة الفتح، الآية 10.
[20] سورة الفتح، الآية 18.
[21] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء.
[22] سورة الممتحنة، الآية 12.
[23] وهي التي تضمنها فقه السياسة الشرعية.
[24] وهي التي عرفها الماوردي قال: الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة
الدين وسياسة الدنيا، الأحكام السلطانية، الباب الأول في عقد الإمامة.
[25] المسند، تتمة مسند الأنصار، حديث أبي عبد الرحمن سفينة مولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، والترمذي، أبواب الفتن، باب ما جاء في الخلافة، وهو صحيح.
[26] الإبانة عن
أصول الديانة، الباب الرابع عشر: الكلام في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
[27] أبو عبد الله،
الحجاج بن يوسف الثقفي، كان أميرا على العراق لعبد الملك بن مروان، وله سيرة
ذميمة، توفي 95هـ، تاريخ الإسلام للذهبي، الطبقة العاشرة، تراجم رجال أهل هذه
الطبقة، حرف الحاء.
[28] أبو الوليد عبد
الملك بن مروان من خلفاء بني أمية، توفي 86 هـ، تاريخ دمشق لابن عساكر، حرف العين،
عبد الملك بن مروان بن الحكم.
تاريخ
الطبري، سنة ست وثمانين، ذكر الخبر عما كان فيه من الأحداث، خبر وفات عبد الملك بن
مروان.
[29] القواعد النورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فصل، القاعدة الخامسة في
الأيمان والنذور، المقدمة الأولى، أيمان البيعة.
[30] من نماذجها ما جاء عند الطبري في تأريخه، سنة سبع وأربعين ومائتين،
أخبار متفرقة،
[31] ترتيب المدارك للقاضي عياض، ترجمة الإمام مالك، باب ذكر محنته.
[32] ومن أمثلة ذلك، ما أورده ابن كثير في البداية والنهاية، من أحداث
السنة الرابعة والستين.
[33] صحيح مسلم، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل
حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة.
[34] الإمام أبو جعفر، أحمد بن محمد الشهير بالطحاوي نسبة إلى بلده
"طحا" بمصر، من علماء المذهب الحنفي، المشهود لهم بالرسوخ في علمهم،
توفي 321هـ، وفيات الأعيان لابن خلكان، حرف الهمزة، الطحاوي، الترجمة 25.
[35] العقيدة الطحاوية،
[36] الإمام أبو الحسن علي بن
إسماعيل، ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل، أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عالم
تغني شهرته عن التعريف به، توفي 324هـ، وفيات الأعيان، أبو الحسن الأشعري، الترجمة429.
[37] الإبانة عن أصول الديانة، مقدمة المصنف، فصل في إبانة قول أهل الحق
والسنة.
[38] الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، الملقب بمالك الصغير،
كان إمام المالكية في وقته، توفي 386هـ) ترتيب المدارك، ومن أهل إفريقية، أبو محمد
عبد الله بن أبي زيد.
[39] الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، باب ما تنطق به اللسنة وتعتقده
الأفئدة من واجب أمر الديانات.
[40] وسميت البيعة هذه بالبيعة القهرية، تحرير الأحكام لابن جماعة، الباب
الأول في وجوب الإمام وشروط الإمام وأحكامه، فصل، وأما الطريق الثالث.
[41] البخاري، كتاب الفتن، باب قوا النبي صلى الله عليه وسلم: سترون بعدي
أمورا تنكرونها، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، الأول
فالأول، وباب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال، وتحريم
الخروج على الطاعة، ومفارقة الجماعة.
[42] من الأمثلة على ذلك، ما أوره
الناصري في "الاستقصاء" عن دولة أمير المؤمنين عبد الواحد المخلوع ابن
يوسف بن عبد المؤمن رحمه الله.
[43] مجلة دعوة الحق، وثيقة البيعة الشرعية، العدد 346،
لائحة المصادر
1. القرآن الكريم برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق، وبالعد المدني الأخير.
2. الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري (ت324هـ) تح د فوقية حسين محمود، الناشر: دار الأنصار القاهرة، ط الأولى 1397هـ.
3. الأحكام السلطانية للماوردي (ت450هـ) الناشر: دار الحديث القاهرة.
4. الاستيعاب في معرفة الأصحاب للحافظ بن عبد البر (ت463هـ) تح علي محمد البجاوي، الناشر: مكتبة نهضة مصر 1960.
5. ألفية ابن مالك (ت672هـ) الناشر: مكتبة دار المنهاج، الرياض.
6. البداية والنهاية لابن كثير (ت774هـ) الناشر: مطبعة السعادة، القاهرة ط الأولى 1358هـ.
7. تاريخ الإسلام ووفيات مشاهير الأعلام، تأليف شمس الدين الذهبي (748هـ) تح الدكتور بشار عواد، الناشر: دار الغرب الإسلامي، ط الأولى 2003.
8. تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر الطبري (310هـ) تح محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار المعرفة مصر، ط الثانية 1976.
10. تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لبدر الدين ابن جماعة (ت733هـ) تح د فؤاد عبد المنعم أحمد، الناشر: دار الثقافة، الدوحة قطر، ط الثالثة 1988.
11. التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا للمؤلف نفسه(ت808هـ) الناشر: دار الكتاب اللبناني 1979.
12. التعريفات الفقهية للبركتي (ت1329هـ) الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 2003.
13. تهذيب اللغة للأزهري (ت370هـ) تح محمد عوض مرعب، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط الأولى 2001.
14. سنن الترمذي (ت279هـ) تح أحمد محمد شاكر وآخرين، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط الثانية 1975.
15. سيرة ابن هشام (ت 213هـ) تح مصطفى السقا وآخرين، الناشر: مكتبة البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط الثانية 1955.
16. صحيح مسلم، (ت261هـ) تح محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، القاهرة 1955.
17. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، لشمس الدين السخاوي (ت902هـ) الناشر: مكتبة الحياة، بيروت.
18. غياث الأمم في التياث الظلم لإمام الحرمين (ت478هـ) تح عبد العظيم الديب، الناشر: مكتبة إمام الحرمين، ط الثانية 1401هـ.
20. الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى لأحمد بن خالد الناصري (ت1315هـ) تح جعفر الناصري ومحمد الناصري، الناشر: دار الكتاب، الدار البيضاء.
21. مسند الإمام أحمد (ت241هـ) تح شعيب الأرنؤوط وآخرين، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط الأولى 2001.
22. معجم اللغة العربية المعاصرة، للدكتور أحمد مختار (ت1424هـ) الناشر: عالم الكتب، ط الأولى 2008.
24. المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (ت502هـ) تح صفوان عدنان الداودي، الناشر: دار القلم، دمشق بيروت، ط الأولى 1412هـ.
25. مقدمة ابن خلدون(ت808هـ) تح عبد الله محمد الدرويش، الناشر: دار يعرب، دمشق، ط الأولى 2004.
26. نظام الحكم في الإسلام، للدكتور محمد يوسف موسى، الناشر: دار الفكر العربي، القاهرة.
اكتب تعليقك